الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)
قوله: {يا بَنِى إسراءيل} اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إبراهيم عليهم السلام، ومعناه: عبد الله؛ لأن (إسر) في لغتهم هو: العبد، و(إيل) هو: الله، قيل: إن له اسمين. وقيل: إسرائيل لقب له، وهو اسم عجمي غير منصرف. وفيه سبع لغات: إسرائيل بزنة إبراهيم، وإسرائِيل بمدّة مهموزة مختلسة رواها ابن شنبوذ، عن ورش، وإسرائيل بمدّة بعد الياء من غير، همز وهي: قراءة الأعمش، وعيسى بن عمر، وقرأ الحسن من غير همز، ولا مدّ، وإسرائل بهمزة مكسورة. وإسراءَل بهمزة مفتوحة، وتميم يقولون: إسرائين. والذكر هو ضد الإنصات، وجعله بعض أهل اللغة مشتركاً بين ذكر القلب واللسان.وقال الكسائي: ما كان بالقلب، فهو مضموم الذال، وما كان باللسان، فهو مكسور الذال. قال ابن الأنباري: والمعنى في الآية: اذكروا شكر نعمتي، فحذف الشكر اكتفاءً بذكر النعمة، وهي اسم جنس، ومن جملتها أنه جعل منهم أنبياء، وأنزل عليهم الكتب، والمنّ والسلوى، وأخرج لهم الماء من الحجر، ونجاهم من آل فرعون وغير ذلك.والعهد قد تقدم تفسيره. واختلف أهل العلم في العهد المذكور في هذه الآية ما هو؟ فقيل هو: المذكور في قوله تعالى: {خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63] وقيل هو: ما في قوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيباً} [المائدة: 12] وقيل: هو قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب} [آل عمران: 187].وقال الزجاج: هو ما أخذ عليهم في التوراة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو أداء الفرائض، ولا مانع من حمله على جميع ذلك. ومعنى قوله: {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} أي: بما ضمنت لكم من الجزاء، والرهب، والرهبة: الخوف، ويتضمن الأمر به معنى التهديد، وتقديم معمول الفعل يفيد الاختصاص كما تقدّم في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] وإذا كان التقديم على طريقة الإضمار، والتفسير، مثل زيداً ضربته {وإياى فارهبون} كان أوكد في إفادة الاختصاص، ولهذا قال صاحب الكشاف: وهو أوكد في إفادة الاختصاص من {إياك نعبد} [الفاتحة: 5] وسقطت الياء من قوله: {فارهبون} لأنها رأس آية و{مُصَدّقًا} حال من {ما} في قوله: {مَا أُنزِلَتْ} أو من ضميرها المقدّر بعد الفعل، أي: أنزلته. وقوله: {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} إنما جاء به مفرداً، ولم يقل كافرين حتى يطابق ما قبله؛ لأنه وصف لموصوف محذوف مفرد اللفظ، متعدد المعنى نحو فريق، أو فوج.وقال الأخفش، والفراء: إنه محمول على معنى الفعل؛ لأن المعنى أوّل من كفر.وقد يكون من باب قولهم هو، أظرف الفتيان، وأجمله، كما حكى ذلك سيبويه، فيكون هذا المفرد قائماً مقام الجمع، وإنما قال: {أوّل} مع أنه قد تقدّمهم إلى الكفر به كفار قريش؛ لأن المراد أوّل كافر به من أهل الكتاب؛ لأنهم العارفون بما يجب للأنبياء، وما يلزم من التصديق، والضمير في {به} عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي: لا تكونوا أوّل كافر بهذا النبي مع كونكم قد وجدتموه مكتوباً عندكم في التوراة، والإنجيل، ميسراً به في الكتب المنزلة عليكم، وقد حكى الرازي في تفسيره في هذا الموضع ما وقف عليه من البشارات برسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب السابق.وقيل: إنه عائد إلى القرآن المدلول عليه بقوله: {بِمَا أَنزَلْتُ} وقيل: عائد إلى التوراة المدلول عليها بقوله: {لّمَا مَعَكُمْ}وقوله: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي} أي: بأوامري ونواهيّ {ثَمَناً قَلِيلاً} أي: عيشاً نزراً، ورئاسة لا خطر لها، جعل ما اعتاضوه ثمناً، وأوقع الاشتراء عليه، وإن كان الثمن هو المشترى به، لأن الاشتراء هنا مستعار للاستبدال، أي لا تستبدلوا بآياتي ثمناً قليلاً، وكثيراً ما يقع مثل هذا في كلامهم، وقد قدّمنا الكلام عليه في تفسير قوله تعالى: {اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16]، ومن إطلاق اسم الثمن على نيل عرض من أعراض الدنيا قول الشاعر: وهذه الآية، وإن كانت خطاباً لبني إسرائيل، ونهياً لهم، فهي متناولة لهذه الأمة بفحوى الخطاب، أو بلحنه، فمن أخذ من المسلمين رشوة على إبطال حق أمر الله به، أو إثبات باطل نهى الله عنه، أو امتنع من تعليم ما علمه الله، وكتم البيان أخذ الله عليه ميثاقه به، فقد اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً، وقوله: {وإياى فاتقون} الكلام فيه كالكلام في قوله تعالى: {وإياى فارهبون} [البقرة: 40] وقد تقدم قريباً. واللبس: الخلط، يقال لبست عليه الأمر ألبسه: إذا خلطت حقه بباطله، وواضحه بمشكله، قال الله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] قالت الخنساء: وقال العجاج: ومنه قول عنترة: وقيل: هو مأخوذ من التغطية: أي لا تغطوا الحق بالباطل، ومنه قول الجعدي: وقول الأخطل: والأوّل أولى. والباطل في كلام العرب: الزائل، ومنه قو لبيد: وبطل الشيء يبطل بطولاً أو بطلاناً، وأبطله غيره، ويقال ذهب دمه بطلاً: أي هدراً، والباطل: الشيطان، وسمي الشجاع بطلاً؛ لأنه يبطل شجاعة صاحبه، والمراد به هنا خلاف الحق.والباء في قوله: بالباطل يحتمل أن تكون صلة، وأن تكون للاستعانة ذكر معناه في الكشاف، ورجّح الرازي في تفسيره الثاني. وقوله: {وَتَكْتُمُواْ} يجوز أن يكون داخلاً تحت حكم النهي، أو منصوباً بإضمار أن، وعلى الأوّل يكون كل واحد من اللبس، والكتم منهياً عنه، وعلى الثاني يكون المنهي عنه هو: الجمع بين الأمرين، ومن هذا يلوح رجحان دخوله تحت حكم النهي، وأن كل واحد منهما لا يجوز فعله على انفراده، والمراد النهي عن كتم حجج الله التي أوجب عليهم تبليغها، وأخذ عليهم بيانها، ومن فسر اللبس أو الكتمان بشيء معين، ومعنى خاص، فلم يصب أن أراد أن ذلك هو: المراد دون غيره، لا إن أراد أنه مما يصدق عليه. وقوله: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة حالية، وفيه أن كفرهم كفر عناد لا كفر جهل، وذلك أغلظ للذنب، وأوجب للعقوبة، وهذا التقييد لا يفيد جواز اللبس، والكتمان مع الجهل؛ لأن الجاهل يجب عليه أن لا يقدم على شيء حتى يعلم بحكمه خصوصاً في أمور الدين، فإن التكلم فيها، والتصدّي للإصدار، والإيراد في أبوابها إنما أذن الله به لمن كان رأساً في العلم فرداً في الفهم، وما للجهال، والدخول فيما ليس من شأنهم، والقعود في غير مقاعدهم.وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {مَعِىَ بَنِى إسراءيل} قال للأحبار من اليهود {اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أي بلائي عندكم، وعند آبائكم لما كان نجاهم به من فرعون، وقومه {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى} الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه، واتباعه بوضع ما كان عليكم من الإصر، والأغلال {وإياى فارهبون} أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات {وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم {وَتَكْتُمُواْ الحق وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي، وبما جاءكم به وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم، وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه في قوله: {أَوْفُواْ * بِعَهْدِى} يقول: ما أمرتكم به من طاعتي، ونهيتكم عنه من معصيتي في النبي صلى الله عليه وسلم، وغيره {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} يقول: أرض عنكم، وأدخلكم الجنة.وأخرج ابن المنذر، عن ابن مسعود مثله.وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد في قوله: {أَوْفُواْ * بِعَهْدِى} قال: هو: الميثاق الذي أخذه عليهم في سورة المائدة {لَقَدْ أَخَذْنَا * الله ميثاق بَنِى إسراءيل} [المائدة: 12] الآية.وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه.وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: أوفوا لي بما افترضت عليكم أوف لكم بما وعدتكم.وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، عن الضحاك نحوه.وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية في قوله: {وإياى فارهبون} قال: فاخشون.وأخرج عبد بن حميد، وابن جريج، عن مجاهد في قوله: {وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ} قال القرآن: {مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ} قال التوراة والإنجيل.وأخرج ابن جريج، عن ابن جرير في قوله: {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} قال: بالقرآن.وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في الآية قال: يقول يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت على محمد مصدقاً لما معكم؛ لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، والإنجيل {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أي: أوّل من كفر بمحمد {وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي} يقول: لا تأخذا عليه أجراً، قال: وهو: مكتوب عندهم في الكتاب الأوّل: يابن آدم علم مجاناً كما علمت مجاناً.وأخرج أبو الشيخ عنه قال: لا تأخذ على ما علمت أجراً، إنما أجر العلماء، والحكماء، والحلماء على الله.وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل} قال: لا تخلطوا الصدق بالكذب {وَتَكْتُمُواْ الحق} قال: لا تكتموا الحق، وأنتم قد علمتم أن محمداً رسول الله.وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: {وَلاَ تَلْبِسُواْ} الآية، قال: لا تلبسوا اليهودية، والنصرانية بالإسلام {وَتَكْتُمُواْ الحق} قال: كتموا محمداً وهم يعلمون أنه رسول الله يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، والإنجيل.وأخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: الحق التوراة، والباطل الذي كتبوه بأيديهم.
|